كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين، أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي الخصوص، قلنا أما الأول فباطل لأن العدم لا دخل له في التأثير، أما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل وخامسها: أن يقال الإنسان هو الضحاك فلو كان المفهوم من قولنا الإنسان هو كل الإنسان لنزل ذلك منزلة ما يقال كل إنسان هو الضحاك، وذلك متناقض لأنه يقتضي حصر الإنسانية في كل واحد من الناس ومعنى الحصر هو أن يثبت فيه لا في غيره فيلزم أن يصدق على كل واحد من أشخاص الناس أنه هو الضحاك لا غير واحتج المخالف بوجهين: الأول: أنه يجوز الاستثناء منه لقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته الثاني: أن الألف واللام للتعريف، وليس ذلك لتعريف الماهية، فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم، ولا لتعريف واحد بعينه، فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه، ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض المراتب أولى من بعض، فوجب حمله على تعريف الكل والجواب: عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه لا يصح أن يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين، وعن الثاني أنه يشكل بدخول الألف واللام على صيغة الجمع، فإن جعلتها هناك للتأكيد فكدا ههنا، ومن الناس من قال إن قوله تعالى: {الزانية والزاني} وإن كان لا يفيد العموم بحسب اللفظ، لكنه يفيده بحسب القرينة وذلك من وجهين: الأول: أن ترتيب الحكم على الوصف المشتق يفيد كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، لاسيما إذا كان الوصف مناسبًا وهاهنا كذلك، فيدل ذلك على أن الزنا علة لوجوب الجد، فيلزم أن يقال أينما تحقق الزنا يتحقق وجوب الجلد ضرورة أن العلة لا تنفك عن المعلول الثاني: أن المراد من قوله: {الزانية والزاني} إما أن يكون كل الزناة أو البعض، فإن كان الثاني صارت الآية مجملة وذلك يمنع من إمكان العمل به، لكن العمل به مأمور وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب حمله على العموم حتى يمكن العمل به، والله أعلم.
البحث الثالث: في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبًا للرجم تارة والجلد أخرى، فنقول: أجمعوا على أن كون الزنا موجبًا لهذين الحكمين مشروط بالعقل وبالبلوغ فلا يجب الرجم والحد على الصبي والمجنون وهذان الشرطان ليسا من خواص هذين الحكمين بل هما معتبران في كل العقوبات، أما كونهما موجبين للرجم فلابد مع العقل والبلوغ من أمور أخر: الشرط الأول: الحرية وأجمعوا على أن الرقيق لا يجب عليه الرجم ألبتة الشرط الثاني: التزوج بنكاح صحيح، فلا يحصل الإحصان بالإصابة بملك اليمين ولا بوطء الشبهة ولا بالنكاح الفاسد الشرط الثالث: الدخول ولابد منه لقوله عليه السلام: «الثيب بالثيب» وإنما تصير ثيبًا بالوطء وهاهنا مسألتان:
المسألة الأولى:
هل يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل، فيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط حتى لو أصاب عبد أمة بنكاح صحيح أو في حال الجنون والصغر ثم كمل حاله فزنى يجب عليه الرجم، لأنه وطء يحصل به التحليل للزوج الأول فيحصل به الإحصان كالوطء في حال الكمال، ولأن عقد النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء والثاني: وهو الأصح وهو ظاهر النص، وقول أبي حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل، لأنه لما شرط أكمل الإصابات وهو أن يكون بنكاح صحيح شرط أن يكون تلك الإصابة في حال الكمال.
المسألة الثانية:
هل يعتبر الكمال في الطرفين أو يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه دون صاحبه فيه قولان:
أحدهما: معتبر في الطرفين حتى لو وطىء الصبي بالغة حرة عاقلة فإنه لا يحصنها وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثاني: يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه وهو قول أبي يوسف رحمه الله.
حجة القول الأول: أنه وطء لا يفيد الإحصان لأحد الوطئين فلا يفيد في الآخر كوطء الأمة.
حجة القول الثاني: أنه لا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت النكاح وكذا عند الدخول الشرط الرابع: الإسلام ليس شرطًا في كون الزنا موجبًا للرجم عند الشافعي رحمه الله وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة رحمه الله شرط، احتج الشافعي بأمور: أحدها: قوله عليه السلام: «فإذا قبلوا الجزية فانبئوهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ومن جملة ما على المسلم كونه بحيث يجب عليه الرجم عند الإقدام على الزنا، فوجب أن يكون الذمي كذلك لتحصل التسوية وثانيها: حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه السلام رجم يهوديًا ويهودية زنيًا فإما أن يقال إنه عليه السلام حكم بذلك بشريعته أو بشريعة من قبله، فإن كان الأول فالاستدلال به بين، وإن كان الثاني فكذلك لأنه صار شرعًا له وثالثها: أن زنا الكافر مثل زنا المسلم فيجب عليه مثل ما يجب على المسلم وذلك لأن الزنا محرم قبيح فيناسب الزجر وإيجاب الرجم يصلح زاجرًا له ولا يبقى إلا التفاوت بالكفر والإيمان، والكفر وإن كان لا يوجب تغليظ الجناية فلا يوجب تخفيفها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أحدها: التمسك بعموم قوله: {الزانية والزاني} وجب العمل به في حق المسلم ولا يجب في الذمي لمعنى مفقود في الذمي، ووجه الفرق أن القتل بالأحجار عقوبة عظيمة فلا يجب إلا بجناية عظيمة، والجناية تعظم بكفران النعم في حق الجاني عقلًا وشرعًا، أما العقل فلأن المعصية كفران النعمة وكلما كانت النعم أكثر وأعظم كان كفرانها أعظم وأقبح، وأما الشرح فلأن الله تعالى قال في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم:
{يانساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] فلما كانت نعم الله تعالى في حقهن أكثر كان العذاب في حقهن أكثر، وقال في حق الرسول: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} [الإسراء: 74، 75] وإنما عظمت معصيته لأن النعمة في حقه أعظم وهي نعمة النبوة، ومن المعلوم أن نعم الله تعالى في حق المسلم المحصن أكثر منها في حق الذمي، فكانت معصية المسلم أعظم فوجب أن تكون عقوبته أشد وثانيها: أن الذمي لم يزن بعد الإحصان فلا يجب عليه القتل بيان الأول: قوله عليه السلام: «من أشرك بالله طرفة عين فليس بمحصن» بيان الثاني: أن المسلم الذي لا يكون محصنًا لا يجب عليه القتل لقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث» وإذا كان المسلم كذلك وجب أن يكون الذمي كذلك لقوله عليه السلام: «إذا قبلوا عقد الجزية فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» وثالثها: أجمعنا على أن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام، فكان إحصان الرجم والجامع ما ذكرنا من كمال النعمة والجواب: عن الأول أنه خص عنه الثيب المسلم فكذا الثيب الذمي، وما ذكروه من حديث زيادة النعمة على المؤمنين فنقول نعمة الإسلام حصلت بكسب العبد فيصير ذلك كالخدمة الزائدة، وزيادة الخدمة إن لم تكن سببًا للعذر فلا أقل من أن لا تكون سببًا لزيادة العقوبة، وعن الثاني لا نسلم أن الذمي مشرك سلمناه، لكن الإحصان قد يراد به التزوج لقوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 40] وفي التفسير: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] يعني فإذا تزوجن إذا ثبت هذا فنقول الذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم أو زنا بعد إحصان رتب الحكم في حق المسلم على هذا الوصف فدل على كون الوصف علة والوصف قائم في حق الذمي فوجب كونه مستلزمًا للحكم بالرجم وعن الثالث أن حد القذف لدفع العار كرامة للمقذوف، والكافر لا يكون محلًا للكرامة وصيانة العرض بخلاف ما ههنا، والله أعلم، أما ما يتعلق بالجلد ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
اتفقوا على أن الرقيق لا يرجم واتفقوا على أنه يجلد، وثبت بنص الكتاب أن على الإماء نصف ما على المحصنات من العذاب، فلا جرم اتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين جلدة، أما العبد فقد اتفق الجمهور على أنه يجلد أيضًا خمسين إلا أهل الظاهر فإنهم قالوا عموم قوله: {الزانية والزاني} يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها كان ذلك تخصيصًا لعموم الكتاب بالقياس وأنه غير جائز، ومنهم من قال الأمة إذا تزوجت فعليها خمسون جلدة وإذا لم تتزوج فعليها المائة، لظاهر قوله تعالى: {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} وذكروا أن قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي تزوجن.
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25].
المسألة الثانية:
قال الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله، الذمي يجلد، وقال مالك رحمه الله لا يجلد لنا وجوه: أحدها: عموم قوله: {الزانية والزاني} وثانيها: قوله عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» وقوله: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولم يفرق بين الذمي والمسلم وثالثها: أنه عليه السلام رجم اليهوديين، فذاك الرجم إن من كان من شرع محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل المقصود، وإن كان من شرعهم فلما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم صار ذلك من شرعه، وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.
البحث الرابع: فيما يدل على صدور الزنا منه، اعلم أن ذلك لا يحصل إلا من أحد ثلاثة أوجه، إما بأن يراه الإمام بنفسه أو بأن يقر أو بأن يشهد عليه الشهود، أما الوجه الأول: وهو ما إذا رآه الإمام قال الإمام محيي السنة في كتاب التهذيب لا خلاف أن على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه مثل ما إذا ادعى رجل على آخر حقًا وأقام عليه بينة، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا، وقد رآه القاضي حيًا بعد ذلك، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها، لا يجوز أن يقضي به وإن أقام عليه شهودًا، وهل يجوز للقاضي أن يقضي بعلم نفسه مثل أن ادعى عليه ألفًا وقد رآه القاضي أقرضه أو سمع المدعي عليه أقربه فيه قولان أصحهما وبه قال أبو يوسف ومحمد والمزني رحمهم الله، أنه يجوز له أن يقضي بعلمه لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز بما رآه وسمعه وهو منه على علم أولى، قال الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة أقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين وشاهد وامرأتين وهو أقوى من شاهد ويمين أو بشاهد ويمين وهو أقوى من النكول ورد اليمين.
والقول الثاني: لا يقضي بعلمه وهو قول ابن أبي ليلى، لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ولم يوجد هذا في المال، أما في العقوبات فينظر إن كان ذلك من حقوق العباد كالقصاص وحد القذف هل يحكم فيه بعلم نفسه يرتب على المال إن قلنا هناك لا يقضي فههنا أولى وإلا فقولان، والفرق أن مبنى حقوق الله تعالى على المساهلة والمسامحة، ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته وزمان ولايته أو في غيره، وقال أبو حنيفة رحمه الله إن حصل له العلم في بلد ولايته أو في زمان ولايته له أن يقضي بعلمه وإلا فلا، فنقول العلم لا يختلف باختلاف هذه الأحوال، فوجب أن لا يختلف الحكم باختلافها والله أعلم.
الطريق الثاني: الإقرار قال الشافعي رحمه الله الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد، وقال أبو حنيفة رحمه الله بل لابد من الإقرار أربع مرات في أربع مجالس، وقال أحمد لابد من الإقرار أربع مرات لكن لا فرق بين أن يكون في أربع مجالس أو في مجلس واحد، حجة الشافعي رحمه الله أمران: الأول: قصة العسيف فإنه قال عليه السلام: «فإن اعترفت فارجمها» وذلك دليل عل أن الاعتراف مرة واحدة كاف والثاني: أنه لما أقر بالزنا وجب الحد عليه لقوله عليه السلام: «اقض بالظاهر» والإقرار مرة واحدة يوجب الظهور لاسيما ههنا، وذلك لأن الصارف عن الإقرار بالزنا قوي، لما أنه سبب العار في الحال والألم الشديد في المآل، والصارف عن الكذب أيضًا قائم وعند اجتماع الصارفين يقوى الانصراف، فثبت أنه إنما أقدم على هذا الإقرار لكونه صادقًا.
وإذا ظهر اندرج تحت الحديث وتحت الآية، أو نقيسه على الإقرار بالقتل والردة، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أحدها: قصة ماعز والاستدلال بها من وجوه: الأول: أنه عليه السلام أعرض عنه في المرة الأولى، ولو وجب عليه الحد لم يعرض عنه، لأن الإعراض عن إقامة حد الله تعالى بعد كمال الحجة لا يجوز الثاني: أنه عليه السلام قال: «إنك شهدت على نفسك أربع مرات» ولو كان الواحد مثل الأربع في إيجاب الحد كان هذا القول لغوًا والثالث: روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لماعز بعدما أقر ثلاث مرات: «لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله» والرابع: عن بريدة الأسلمي قال: «كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقول لو لم يقر ماعز أربع مرات ما رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم».